معاهدات رسول الله مع القبائل حول المدينة
عقد رسول الله عدَّة معاهدات مع المشركين؛ سواء منهم من كان حول المدينة أو في مكة ذاتها، أما القبائل حول المدينة فمنها على سبيل المثال المعاهدة التي عقدها رسول الله مع بني ضمرة[1]، وكان على رأسهم آنذاك مخشي بن عمرو الضمري، وفيها -كما تقول الرواية[2]- وادعهم[3] رسول لله ، وكانت هذه الموادعة في صفر سنة (2هـ)[4]، أي بعد أقل من عام من هجرة رسول الله ؛ ممَّا يُوَضِّح وجود هذا الفكر التعايشي من بداية نشأة الدولة الإسلامية، وكذلك وادع رسول الله بني مدلج، والذين يعيشون في منطقة ينبع، وذلك في جمادى الأولى من السنة الثانية من الهجرة[5]، وفعل نفس الشيء أيضًا مع قبائل جهينة، وهي قبائل كبيرة تسكن في الشمال الغربي للمدينة المنورة[6].
لقد حاول رسول الله أن يعيش هو والمسلمون في جوٍّ هادئ مسالم مع من يجاورونهم من القبائل والبطون، ولم يَسْعَ لقتال قط، بل كان دائمًا مؤْثِرًا السلم على الحرب، والوفاق على الشقاق.
صلح الحديبية
كما عاهد رسول الله قريشًا في الحديبية (أواخر العام السادس من الهجرة)[7]، رغم معانات رسول الله منهم تسعة عشر عامًا كاملة سبقت هذا الصلح، حيث تعرض رسول الله وأصحابه للاضطهاد والتعذيب، ولكن رسول الله كان حريصًا على إتمام هذه المعاهدة؛ مما يدل على مدى سماحته مع أعدائه وحبِّه للسلام.
إنه مع كل هذه المعاناة التي شاهدها رسول الله نجده يفَكِّرُ في الذهاب إلى عقر دار المشركين في سكينة وسلام؛ ليؤدِّي مناسك العمرة التي أُرِيَهَا في الرؤيا، ثم يعود إلى المدينة المنورة دون قتال ولا نِزَالٍ.
هذا ما فَكَّرَ فيه حقيقةً، وطبَّقه على أرض الواقع بكل وسيلة ممكنة، فخرج رسول الله من المدينة على رأس ألف وأربعمائة[8] من الصحابة الكرام y، ولم يَخرُج بكل طاقة المدينة المنورة، والتي كانت تزيد على ثلاثة آلاف يوم الأحزاب، ثم إنه لم يخرج إلاَّ بسيف المسافر فقط، وساق أمامه الهَدْيَ[9] الكثير؛ ليُثبت للجميع أنه ما ذهب إلاَّ للعمرة، وعند ذي الحليفة[10] أحرم، وأحرم معه كل الصحابة، وانطلقوا في التلبية طوال الطريق[11].
وأرسل رسول الله بشر بن سفيان الخزاعي[12] ليستكشف الطريق، وليعرف هل ستتفهم قريش موقف المسلمين السلمي، ورغبتهم الشرعية والطبيعية في زيارة البيت الحرام، أم أنها ستتكبر وتطغى، ولكنه عاد إلى رسول الله قائلاً: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، خرجت على العوذ المطافيل[13]، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عَنْوَةً أبدًا، وهذا خالد بن الوليد[14] في خيلهم قدموا إلى "كُرَاع الغميم[15]"، لكن رسول الله لم يُسْتَفَزَّ بذلك، إنما قال في هدوء: "يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ! لَقَدْ أَكَلَتْهُمُ الْحَرْبُ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ؛ فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الإِسْلامِ وَهُمْ وَافِرُونَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ"[16].
ومع كل هذه الرغبة القرشية في الحرب واستمرار العداء إلاَّ أن الرسول لم تغب عنه الرؤية السلمية، لقد اكتشف مكان خالد بن الوليد، ومِنَّ ثم أشار على المسلمين باتخاذ طريق آخر وعر أشار عليه به رجل من أسلم[17]، وبذلك تجنَّبَ -ولو مؤقَّتًا- الصدام مع المشركين، ولم يكن هذا من خوف ألَمَّ برسول الله ؛ إنما كان ذلك ليتفادى الحرب قدر استطاعته[18].
ووصل رسول الله بالمعتمرين إلى الحديبية، وأسرع خالد بن الوليد بفرقته إلى أهل مكة ليحذِّرهم، وعند الحديبية حدث أمر عجيب؛ لقد وقفت ناقة رسول الله ، وامتنعت عن السير، فحاول الناس زجرها بقولهم: حَلْ حَلْ[19]. إلاَّ أنها أصرَّت على الوقوف، فقال الناس: خلأت القصواء[20]. فقال رسول الله : "مَا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ". ثم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا"[21].
لقد أعلن رسول الله نهجه السلمي، فأقسم أنه سيقبل بأي خطة تحفظ البلد الحرام، وتحفظ الدماء، وتحفظ الأعراض، حتى لو كان فيها شيء من التنازل؛ فبعثت قريش الرسل إلى رسول الله تترى، وهدفهم جميعًا هو التخويف والإرهاب، ومحاولة الصدِّ عن البيت الحرام دون قيد أو شرط، لكن رسول الله أعلن لبديل بن ورقاء الخزاعي[22] -وهو أول الرسل الذين جاءوه من قريش- أنه يريد الصلح والمعاهدة، فقال رسول الله له: "إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا[23]، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ"[24].
ثم توالت الرسل، فقال لهم رسول الله مثلما قال لبديل، ثم قرَّر أن يُرسل رسولاً إلى قريش؛ لعرض وجهة النظر الإسلامية، فاختار رسول الله عثمان بن عفان t ليكون سفيرًا للمسلمين إلى داخل مكة، وبالفعل دخل عثمان t إلى البلد الحرام، ودارت بينه وبينهم مفاوضات، ولكن هذه المفاوضات طالت دون نتيجة حتى مرَّت عدَّة أيام، وأُشيع أن عثمان t قد قُتِل، وقَتْل السفراء إعلان حرب رسمي، وهنا اضْطُرَّ رسول الله اضطرارًا إلى القيام ببيعة الرضوان؛ حيث بايع الصحابة على عدم الفرار[25]، ومِنْ ثَمَّ أصبح القتال وشيكًا جدًّا، لولا أن عثمان ظهر في هذه اللحظة، وثبت أن الأمر كان مجرَّد إشاعة، فهدأت النفوس واستراحت، ثم ظهر رسول جديد من قِبَل قريش هو سهيل بن عمرو[26].
ورغم ذلك أصرَّ رسول الله على الصلح بكل طريقة، إلاَّ أن قريشًا تأبى، ولكنها في النهاية بدأت تتراجع، وكانت بداية هذا التراجع هو إرسال سهيل بن عمرو، وهو مشهور بالدبلوماسية والقدرة على التحاور، وليس حادًّا في طباعه كبعض الزعماء الآخرين، حتى إن رسول الله عندما رآه قال: "قَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ"[27]. وبالفعل.. وكما توقَّع ، فقد أراد سهيل أن يُتم الصلح بين قريش والمسلمين، ولكنه أظهر في أثناء الصلح تشدُّدًا وتعنُّتًا، بينما ظهرت في بنود الصلح وطريقة كتابته مرونة الرسول ورغبته الأكيدة في الصلح.
فعندما دعا رسول الله الكاتب، فقال النبي : "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". قال سهيل: أمَّا الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلاَّ: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي : "اكْتُبْ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ". ثمَّ قال: "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ". فقال سهيلٌ: والله! لو كنَّا نعلم أنَّك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النبي : "وَاللَّهِ! إِنِّي لَرَسُولُ اللهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ". (قال الزُّهريُّ: وذلك لقوله : لا يسألوني خُطَّةً يعظِّمون فيها حرمات الله إلاَّ أعطيتهم إيَّاها.) فقال له النبي : "عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ".
فقال سهيل: والله لا تتحدَّث العرب أنَّا أخذنا ضغطةً، ولكن ذلك من العام المقبل. فكتب، فقال سهيل: وعلى أنَّه لا يأتيك منَّا رجلٌ وإن كان على دينك إلاَّ رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان اللَّه! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟! فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف[28] في قيوده، وقد خرج من أسفل مكَّة حتَّى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمَّد أوَّل ما أقاضيك عليه أن تردَّه إليَّ. فقال النبي : "إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ". قال: فواللَّه إذًا لم أصالحك على شيءٍ أبدًا. قال النبي : "فَأَجِزْهُ لِي". قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: "بَلَى فَافْعَلْ". قال: ما أنا بفاعلٍ. قال أبو جندلٍ: أي معشر المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جئت مسلمًا؟! ألا ترون ما قد لقيتُ؟! وكان قد عُذِّب عذابًا شديدًا في الله"[29].
فرسول الله -كما رأينا- يتنازل عن كتابة البسملة كاملة في أول العهد، ويتنازل عن كتابة وصف نفسه بالرسالة، ويَقْبَلُ أن يعود من هذا العام فلا يطوف بالبيت، ويقبل أن يَرُدَّ من جاءه مسلمًا من أهل مكة إذا طلب أولياؤه ذلك؛ بل ويتفاقم الأمر جدًّا عندما يأتي أبو جندل بن سهيل بن عمرو t، وهو في حالة شديدة من الإعياء والإجهاد والمعاناة يطلب النصرة من المسلمين، فيطلبه رسول الله من سهيل بن عمرو -وهو أبو أبي جندل- فيرفض سهيل، ويُعَلِّقُ نجاح المفاوضات بكاملها على أخذه لهذا الفتى المسلم المعذَّب، وأمام مخاطر فشل المعاهدة يوافق رسول الله ، من أَجْلِ أن يتمَّ الصلح برغم كل ما نراه من أزمات ومعوقات، وبرغم اعتراض كثير من الصحابة، وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب t، ويتحقَّق ما يريده رسول الله ، وتُوَقَّع المعاهدة من نسختين يحتفظ كل من الطرفين بنسخة عنده.
الجانب العملي في معاهدات الرسول
ثم إن أروع ما في معاهدات رسول الله هو الجانب العملي التطبيقي الذي تلا كتابة هذه المعاهدات؛ حيث رفض النبي استقبال أبي بصير[30] -وهو رجل من قريش دخل في الإسلام- بعدما فرَّ بدينه من مكة، ولكن قريشًا أرسلوا رجلين في طلبه، فقالا لرسول الله : العهد الذي جَعَلْتَ لنا. فدفعه إلى الرجلين.
فمن وفاء رسول الله أنه يردُّ مسلمًا جاءه إلى المدينة المنورة، والمدينة أحوج ما تكون إلى الرجال والجند، والرجل مسلمٌ قد يُفْتَنُ في دينه ويُعَذَّب، ومع ذلك يردُّهُ؛ لأن بنود المعاهدة نصَّت على ذلك، وليس له إلا الوفاء، وقد تعجَّب أبو بصير t نفسه من ردِّ فعل الرسول ، فقال متسائلاً: يا رسول الله، أتردُّني إلى المشركين يفتنوني في ديني؟! قال : "يَا أَبَا بَصِيرٍ، انْطَلِقْ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى سَيَجْعَلُ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخرَجًا"[31].
وبالفعل استطاع أبو بصير أن يعسكر بمنطقة سِيف البحر[32]، وبدأ يقطع الطريق على قوافل قريش، وقريش لا تستطيع أن تفعل له شيئًا، ولا تستطيع أن تلوم رسول الله ؛ لأنه ليس تحت سيطرته، وسمع بمكانه مسلمون آخرون في مكة، فقرَّروا أن يلتحقوا به؛ ليكونوا له عونًا على قطع الطريق على قوافل مكة، فلحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو، ولحق به سبعون آخرون من المسلمين الذين لا يستطيعون اللحاق بالمدينة لشروط المعاهدة، ولا يستطيعون البقاء في مكة لتعذيب الكفار لهم، وازدادت حدَّة الصدام بشدَّة بين هذه المجموعة المسلمة وبين قوافل قريش، حتى اضطُرَّت قريش أخيرًا إلى أن تذهب إلى رسول الله ، وترجوه أن يُلْحِقَ هؤلاء به[33]؛ ولأن الرسول يريد حقيقةً أن يتعايش في سلام مع مَنْ حوله من المشركين فإنه قَبِل بذلك، وضمَّهم إليه، ولو شاء لتركهم يُنَغِّصون على قريش حياتها، ويُضعفون قوتها، ويستنْزِفون ثرواتها، ولكنه كان يتعامل مع قريش في صفاء نفس لا يدركه إلاَّ مَنْ عرف رسول الله .
هكذا كانت معاهدات رسول الله مع غير المسلمين معاهدات قائمة على الوفاء والعدل وحب السلم، فما أحوج العالم اليوم أن يتعلَّم مثل هذه القيم!